وصوّرنا يا زمن…
لم يكن الرسّام توماس سيدون الذي نبّه إلى التزوير في بعض الصّور
الفوتوغرافية كما أسلفنا وحده الذي استعان بهذه الصور في رسم لوحاته الاستشراقية،
وإنّما كان هناك أكثر من رسّام، ومنهم الرسّام البريطاني الشهير وليم هانت Wiliam Hunt
(1827 – 1910)
، الذي جاء إلى القدس وعاش فيها أشهراً في العام 1854م وقام بأربع
جولات مطوّلة في سورية بين 1854 – 1859، وفي تشرين الأول 1855 رافقه القس المصوّر
جيمس غراهام في جولته في سورية، واستخدم هانت في رسومه صور غراهام وبيرغهايم،
وبريدجز، وغيرهم…
في سنة 1853 تعلّم المحامي والديبلوماسي الألماني فيلهلم فون هيرفورد مبادئ
التصوير خلال رحلته إلى جنوب فرنسا من المصوّر الآثاري أدوارد بالدوس.
وفي سنة 1855 بدأ رحلته إلى بلاد الشرق، فالتقط صوراً للمدن القديمة سرديس
وطرابزون في آسيا الوسطى. وفي أواخر العام 1855 التقط صوراً لدمشق، وهياكل بعلبك،
وفي سنة 1856 ذهب لفلسطين وبقي فيها شهرين التقط خلالها أكثر من خمسين صورة. ثم
عيّن في هذه الآونة قنصلاً لبلاده في القاهرة وظلّ هناك حتى ربيع 1857، وعندما عاد
إلى بلاده، عرض صوره في برلين، وقدّم مجموعة مختارة منها إلى القيصر فريدريك غليوم
الرابع. وفي العام 1861 عيّن قنصلاً لبلاده في دمشق، ثم نقل من دمشق إلى طرابزون
1866، وهناك أقدم على الانتحار في كانون الأول.. ولا يعرف الكثير عن نشاطاته
التصويرية، وأوراقه. ومذكراته محفوظة حالياً في ميرزبورغ، وفي وزارة الشؤون
الخارجية في برلين، ومن المؤسف أنّ أكثر أعماله التصويرية قد تعرّض للتلف خلال
الحرب العالمية الثانية.
كان اهتمام هيرفور تصوير المعابد في دمشق وبعلبك، والتقط صوراً بانورامية
للقدس والقاهرة، والقلاع الصليبية، والمواقع التوراتية.
في سنة 1841 عمل جيمس روبرتسون James
Robertson (1813-1888) خبيراً في النقش في دار صك العملة في
استانبول، وفي سنة 1853 افتتح مع صديقه فيلتشي بياتو استديو للتصوير الفوتوغرافي
في الحي الأوروبي باستانبول، وحقق الصديقان شهرة كبيرة بعد أن قاما بتصوير حرب
القرم (1854 – 1857) وانطلقا بجولة في سورية والتقطا مجموعة من الصور..
في سنة 1858 – 1859 قرر الدوق الروسي قسطنطين ابن القيصر نيقولا الأول أن
يقوم برحلة إلى جنوب فرنسا وإيطاليا ومالطا واليونان وتركيا وسورية، ورافقه في هذه
الرحلة الصحفي الروسي الأصل غبرييل دورومين الذي كان يدير مجلّة La Gazette
du Nord وتطبع في باريس، وكان عضواً في الجمعية الفرنسية
للتصوير 1858.
التقط دورومين العديد من الصّور في هذه الرحلة منها صور جميلة رائعة لدمشق،
وقام بعرضها في متجر غودان في باريس، وفي لندن، وأمستردام 1862. وقام بإعداد ألبوم
يضمّ صوراً بحجم استثنائي 120 × 60سم بعنوان ذكريات. وتحتفظ مكتبة مدينة روان Rouen
العامة في فرنسا بهذا الألبوم النادر.
في عام 1859 قام المصوّر الفرنسي فرانسوا جوزيف إدوارد دوكبينيول برحلة إلى
مصر وسورية والتقط مجموعة من الصور عرضها في قصر الصناعة بباريس، وتشير مجلّة
(لالوميير) التي نشرت أخبار المعرض 1859 إلى أنّ الصور التقطت في دمشق ومصر
والنوبة والقدس والبتراء وبعلبك، وتقول: "إنّ الصور تكشف لنا أطلال مصر
وسورية وكأنّهما الاكثر إثارة في زمننا الراهن".
في أواخر عقد الخمسينيات تتالت رحلات المصورين المحترفين البريطانيين
لسورية ومصر بهدف الاستكشاف والطلب المتزايد في أوروبة على هذه الصور، وكان أغزر
المصورين إنتاجاً المصور فرانسيس فريث Francis
Frith (1822 – 1898) الذي قام بثلاث رحلات تصويرية
مستخدماً الكولوديوم الرطب وثلاث كاميرات، واحدة ضخمة تلتقط صوراً بقياس 50 × 40
سم..
أسس فريث في مدينة رايغيتReigate بمقاطعة ساري Surrey
البريطانية، شركة تدعى (فرانسيس فريث وشركاه) واستعان بالعديد من المصورين
الفوتوغرافيين من أجل إنتاج كمّيات كبيرة من الصور تغطي معظم أنحاء العالم. ومن
بين هؤلاء المصورين، كان فرانك ماسون غود Frank Mason
Good الذي تجوّل في مصر وسورية، والتقط العديد من الصور
لمدينة دمشق…
ومطلع ربيع 1860 أصدر فريث كتاباً في مجلّدين تحت عنوان: مصر وفلسطين
مصوّرة وموصوفة، ويتضمن الكتاب 76 صورة مع تعليقات ووصف للمناطق التي زارها. وكان
النصّ المرفق بالصور مشبعاً بالعنصرية والشوفينية كالتي في كتابات ديفيد روبرتس،
وهي نظرات مليئة بالحقد الاستعماري… ومن هنا… بدأت عيون الغرب تتطلع إلى الشرق..
كتب فريث في مقدّمة إصداره الفوتوغرافي الأوّل: "لقد اخترت بداية
لجهودي، أكثر منطقتين مثيرتين للاهتمام في الكرة الأرضية.. مصر وفلسطين"..
وكان سبب اختياره هذا. الافتتان الديني والتاريخي بالكتب المدعمة بالصور في أوساط
الجمهور الفيكتوري البريطاني وعلى وجه الخصوص (صور فريث دمشق)، صور الأحياء
والبيوت الدمشقية الجميلة المترفة المطعّمة بالفسيفساء والمتلألئة بالنوافير
والألبسة الحريرية.. الدامسكو.. والأغباني.. وفي تعليقه على صورة التقطها لدمشق من
الصالحية يقول: "إنّ آلة التصوير قليلاً ما تنصف بل ربّما يمكننا القول إنّها
لا تنصف أبداً.. إنّها لا تنقل السحر والرّوعة لهذا المنظر المبهج للعين.. البيوت
البيضاء المنتشرة على مساحة واسعة تتلألأ بسحر من خلال السهل اللامتناهي بخضرته
وزخارفه النباتية الحيّة". ويعلّق أيضاً قائلاً: "أسمح لنفسي بالقول، مع
إعطاء المزيد من القيمة للصور الفوتوغرافية الجيّدة عن الآثار والتحف الشرقية.
إنّ
يد التغيير السريع تصيب الكثير من المعالم البارزة، فبالإضافة إلى أنياب الزمن
القاسية والرياح الرملية التي تهبّ بلا انقطاع، فإنّ المعابد والمقابر معرّضة
دائماً لعمليات السلب المستمرة، من قبل الحكّام الذين ينهبون الأحجار المصقولة
الضخمة لبناء بيوتهم، والقرويون الذين يستولون على ما يتوافر لهم من أحجار الآجر..
ويعمد السيّاح من مختلف أمم الأرض إلى كسر ما يقع تحت أيديهم من الأحجار المزخرفة
هندسياً ومعمارياً ويأخذونها لبلادهم".
لقد أصدر فريث طبعتين من الكتاب المقدّس وفيهما صور منها لدمشق - الشارع
المستقيم - ومحل بيع الفخّار…
في حديثنا عن جيمس غراهام أشرنا غلى أنّه علّم بيتر بيرغهايم التصوير..
وتحدثنا قليلاً عن بيتر، ونعود هنا لنقول: لقد التقط بيتر بيرغهايم صوراً لفلسطين
ولبنان ودمشق، وصوره لدمشق موقّعة ومؤرّخة في العام 1873. وفي تقرير للبريطاني
تشارلز وارن الذي كان يعمل في صندوق استكشاف فلسطين ملاحظات حول زيارته إلى عين
جدي والشواطئ الجنوبية للبحر الميّت في أواسط صيف 1867 ويقول:
إنّ السيد بيرغهايم عاد لتوّه من رحلة تصويرية ناجحة إلى البتراء،والتقط
مجموعة من الصور .
ويشير دليل باديكير (فلسطين وسورية دليل المسافرين) 1876 إلى أن بيرغهايم
يعمل مصوّراً فوتوغرافياً في القدس. وقد زاره جورج بكهام 27 آذار 1869 في القدس واختار
إحدى وعشرين صورة كبيرة الحجم، وثلاثين صورة صغيرة بسعر 111 فرنكاً، والتقط بيرغهايم
صورة شخصية لباديكير مع زوجته في حديقة المنزل وكان ثمن أربع عشرة نسخة من هذه
الصورة سبعة جنيهات استرلينية.
وكتب رولا فلويد 1885 إلى شقيقته تفاصيل مصرع بيرغهايم وكان فلويد واحداً
من 156 أمريكي بقيادة القس جورج آدامس من تنظيم ديني أصولي يدعى (كنيسة المسيح)
استوطنوا قرب يافا عام 1854، وأسس فلويد شركة لخدمات الحجاج والسيّاح الذين يزورون
الأرض المقدّسة (فلسطين)..
كتب فلويد: "وقع حادث سيء منذ حوالي اسبوعين بين يافا والقدس.. لقد
قتل بيرغهايم شقيق صموئيل المتوحّش الذي غرر بي وتعامل مع شركة كوك. وكان يمتطي
عربة ويحمل ساعة وسلسلة ذهبية وبعض الدولارات نقداً لكن لن يمسّها أحد، والاعتقاد
أنّ هناك بعض أعدائه استأجروا من قتله". ويشرح بالتفصيل لأخته… مقتل
بيرغهايم…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق